ميــراثـ !!



أسدل الليل ظلمته.. وأمواج البحر تلاطم بعضها بعضا.. شيء ما لا يراه أحد سواها,دفعها للجلوس على شاطئ البحر.. عيناها, تنظر إلى ظلمة تكاد ترى منها بريق مياه البحر.. تقذف بيمينها الحصى ليرتمي في أحضان الموج..فلا تسمع مع هديره إلا وقع الحصى وكأنه يقول لها" لن تغيري في الماضي شيء سوى أن تصغي لصداه المؤلم!!" .. تخنق عبرتها وتنهض من مكانها بخطا بطيئة لتبتعد قليلًا عن الشاطئ.. وتسند جسدها الطفولي النحيل على صخرة أشبه بصخور النهر الكبيرة..

 تضع إحدى قدميها فوق الأخرى.. وبدأ صوت ترتيلها لآي القرآن يزيد هدير البحر جمالًا.. لا تسمع إلا صوتها المرتد حينما يداعب شغف قلبك بأروع كلام..



***


بدأ صوتها ينخفض تدريجيًا.. حتى أنهت آخر آية كانت ترتلها.. شيء ما أجبرها على التوقف!! قارب صغير يدفعه صبي إلى البحر..لا تسمع منه إلا الأنين!! ولا ترى من جسده المنهك إلا ثياب رثة!! وقدمان حافيتان!! بل هيكل بشري سيماه في وجهه من شدة الفقر..


اقتربت منه..
بدأته بالسلام حديثًا..
نظر إليها ولم يعرها أدنى اهتمام!! شعرت بأن وجودها عائقًا بالنسبة له!!


عادت..إلى الصخرة..وكما كانت عليه!!إلا أنها أخذت بالتحديق في ذلك الصبي..فكيف يجول بقارب صغير في ذلك الظلام؟!


جازف الصبي بإرادة منه كما يبدو لها..


ركب القارب وبدأ رحلة غامضة.. بداية لا نهاية لها!! القارب يبتعد وبكل خطوة تراه يصغر في عينيها فلم تعد تكاد تراه..


فاقت مذعورة!!


شعرت أن هناك حدثًا ما أخفى ذلك الصبي..اقتربت من البحر..بدأ جسدها النحيل يقاوم الأمواج.. لم تشعر بذلك..فهي منهمكة في البحث عن ذلك الصبي الغريب..لم يعد يُرى منها سوى وجهها الموجه للسماء..ليس له!!بل لتقاوم مياه البحر التي بدأت بابتلاعها رغمًا عنها..


فجأة!! اختفت فتاتي في البحر!! وما هي إلا ساعات ليطل الفجر على صوت المآذن وعذوبة الأصوات.. وما زالت فتاتي مختفية!!


***


في أعماق هذا البحر قد تكون فتاتي.. جثة لا روح فيها!! فالوقت كفيل بحدوث ذلك.. أو ربما ابتلعتها الأسماك الكبيرة.. يا إلهي!! لا أعلم ماذا حدث!!


هناك في الجانب الآخر للبحر قد تكون فتاتي..


وهو كذلك!! حملتها رحمة الله لتنجو من بحر غدار.. إلا أنها في مكان مجهول!!


فاقت بعد نومة طويلة.. ووجدت نفسها مطروحة على شاطئ لجزيرة لا تعرفها..ثيابها مبللة..ونظراتها راجفة من غرابة الحدث!! نهضت بتثاقل وبدأت تمشي متجهة لأعماق الجزيرة..


عيناها..قد اغرورقت بالدموع.. مابين أمل تهدئ به نفسها.. ويأس يحدثها به ذاتها..


لم تستطع أن تكمل خطاها.. عادت إلى شاطئ البحر.. لا تعرف ما وراء تلك العودة..إلا أنها عادت له.. ربما يكون الدافع نفسه الذي دفعها للجلوس على الشاطئ قبل الحادثة!!


***






***


بدأت أستار الليل تنزل.. أما فتاتي فما زالت تجلس في مكانها..تحدق بعينيها في أمواج متلاطمة.. تتذكر الموقف المشئوم الذي دفعها للنزول في البحر!!إنه ذلك الصبي.. أين ذهب ياترى؟! حاولت أن تنساه فهو المتسبب فيما حدث بصمته المؤلم..وفعله الأشد إيلامًا!!


فجأة!!


شعرت بيد صغيرة تربت على كتفها!! لم تستطع أن تلتفت من شدة الصدمة..صدمة الفرح بوجود كائن في تلك الجزيرة.. وصدمة أن يربت أحد على كتفها فجأة ويقطع حبل أفكارها!!


جلس بجانبها دون أن تلتفت إليه!! وبدأ يهمس وعيناه تتأمل البحر:"كلانا في ضياع"!!


بدأ رأسها ينتحي عن واجهة البحر لتتجه نظراتها إليه..وكانت المفاجأة!!


لقد وجدت الصبي أخيرًا .. بل هو من وجدها..ابتسمت بعفوية!! وهو كذلك..كان الظلام أليل..إلا أن نور وجهيهما كان كفيلًا بالإشراق..


لم تتمالك نفسها ..


بدأت دموعها تبلل خديها وهي تسأله:"ما الذي دفعك للبحر وأنت تعلم غدره؟!" لم يستطع أن يتمالك نفسه هو الآخر:"أبحث عن قلبي الذي سبقني إليه"!!


لم تشأ أن تعرف تفسير هذه الجملة!! المهم لديها العودة حيث التراتيل..


ألتفت الصبي إليها ببطء ورمقها بنظرة تنبئ عن قوة إدراك تعشق المكوث بداخله!!


فهو يشعر أنها لم تعد تهتم لقصته التي ألقت بهما مابين حبلين (حبل موت وحبل حياة!!).. شيء ما يجبره على الحديث..تلك الأنفاس التي تأن بداخلنا..


عاد ينظر للبحر بعينيه التي امتلأت بالدموع قبل أن يرمش فتنحدر بسرعة..وبدأ يقص عليها كلمات تقطعها شهقات متتالية.


:"هل تعلمين أن أبي هنا في الأعماق منذ سنين؟!".


ألتفت فتاتي إلى الصبي مقطبة حاجبيها مابين مكذب حد الرأفة ومصدق حد السخرية!!


أكمل الصبي قصته وهو يلعب برمال الشاطئ التي تضمهما تلك اللحظات: "تركني في غفوة..أقسم أنني كنت في عفوة عندما تركني.. في كل شروق وغروب أمكث في وسط الغدر هنا..علني أجد قلبه..قلبه لاسواه..فإما أن أخرجه ليضمني ثانية..وإما أن أمكث معه حيث شاء هو حينما يأس من حياته..".


شعرت فتاتي أنها بحاجة لتسمع أكثر..ضمت ركبتيها لصدرها بشدة..وما زال البحر كل نظر لها.. ليستنطقها الفضول بهمس:"هل يغفو حبيب عن حبيب دمه؟!!".


بدأ الصبي يعض على شفتيه بقوة..يغمض عينيه..فيرفع رأسه للسماء ليفتحها ثانية..فعادت أنظاره للبحر ..فيستنطقه البحر بصمت:(ألا فلتكمل لها غدري بأبيك!).


أكمل الصبي غرابة حديثه:"لم أشعر بغرقه حينما نزل للبحر!! فلقد كنت أحدثه من بين الركام في القارب..وعلى ضوء شمعة تكاد أن تنطفئ.. صُدمت حينما اقتربت منه!! فلم تكن إلا لوحتي الزيتية التي انتهيت من رسمها لوجهه الغالي قبل لحظات حينها..كانت تلمع بألوانها الزيتية التي تعكس ضوء الشمعة!.. ووجدث أبي قد غادرني وأنا في غفوة..حينما تعمد النزول قبل أن يقول لي:"لن أعود ثانية"..






قامت فتاتي ومدت يدها للصبي..أمسك بيدها وتقدما نحو البحر..كل منهما يمسح دموعه.. ويواري عن الآخر حزنه.. ركبا القارب سويًا..اشتاقت للعودة..أما هو فلا يشتاق إلا للخفاء!!


بدأت أمواج البحر تؤازر الصبي.. ليكسر القارب بمطرقته!! سقطا في أحضان بحر قد كانت فتاتي تخاف من غدره..لتصل جثتهما إلى حيث بدأت الرحلة..جثث لا روح فيها ..


ماتت فتاتي بشوقها للتراتيل..أما هو فأبى إلا أن يموت منتحرا!!

فافترقنا!!


قبل ثلاث سنوات تقريبًا..
افترقت أنا وهي..
وبعد صداقة حميمة..!
وبسبب غلطة تعتبرها هي..
لأنني لم أحقق لها أمنية!!

أمنيتها أن أبوح بكل مافي قلبي لها!!
ولكنني
لم أحقق الأمنية

فافترقنا!!!

انشقاق!!



مزقت كل أوراقها المبعثرة في حجرتها الصغيرة..ثم حملتها في صندوق خشبي قديم.. لم تشأ أن تحتفظ ببقايا من ذكريات الراحلون عنها بعيدًا إلى حيث يرحلون!! لا تعلم إن كانت ستتخلص منها مثلما لفظتهم الحياة فرحلوا وتركوها وحيدة..أم أنها ستذروها للرياح هناك..فوق قبورهم التي ضمتهم عندما رمتهم أيدي مازالت تنتظر دورها للرحيل.. خرجت .. لاتعلم إلى أين ستكون وجهتها!! هل إلى البحر لتلقي بذلك الصندوق فتحرر قيود حبر لم يستطع أن يفارق الأوراق الممزقة؟! أم إلى المقبرة لتنثرها فوق قبورهم مثلما خططت مسبقًا!! قدمان ترتدي نعلين بالية.. هناك في الأروقة تجول.. تلتفت في كل ناحية حتى السماء رفعت بصرها إليها!! لا أعلم ماذا تريد هذه الكائن البشري الغريب من السماء!! أو حتى من الأرض حينما تقسوا عليها بقدميها ثم تنظر فتحرك شفتيها باتجاهين متعاكسين!! عادت.. حيث حجرتها مجددًا .. وحيث الصباح من جديد.. لتخرج الصندوق الخشبي ذاته..ثم تلقي نظرة..ليس إليه وحده..بل إلى الأوراق المحنطة في جوفه!! :"هل حان الوقت يا ترى؟!"..هذا ما حدثت به نفسها حينما أغلقت الصندوق ونظرت من نافذتها الخشبية المزرقة كالسماء.. :"علّها تمطر"..حلم يراودها منذ يومين.. لا أعلم لماذا تلح كل ساعة في انتظار دمع السماء أن يهطل!! تنهدت بقوة..وكأنها تعتزم المضي بلا انتظار لايحمل هوية!! فاقت من برودها الذي جعل من عالمها ثلج يرفض اكتساء البياض.. وعادت للصندوق!! حملته هذه المرة بين كفيها دون أن تضمه لصدرها.. علّه يجد مأوى لما بداخله فيلفظه له.. حصى قد نحتته الجبال.. أو ذرات من الرمال المجتمعة.. تمشي وكأنها تعرف طريقها هذه المرة.. لم تنظر للسماء مثلما كانت تفعل.. ولم تنظر حتى للأرض!! كل ما تنظر إليه هو صندوق خشبي صغير يحمل في رحمه أوراق ممزقة قد فارقت الحياة ورفضت الإجهاض!! توقفت فجأة!! وأخذت عيناها تنظر ببطء إلى اليمين.. ابتسمت ثم ارتجفت شفتيها!! إنها تكتم عبرة بدأت تخنق أنفاسها!! دخلت من حيث لا تدري إلى المزرعة المحفوفة بأشجار الزيتون.. وبدأت تحفر بأطراف أصابعها تربة خصبة..ثم فتحت الصندوق لتلقي بالأوراق الممزقة.. لم تمطر السماء تلك اللحظة ولا حتى قبل يومين.. وهل لنا أن نختار متى يهطل دمع السماء!! جلست على قدميها وهي تنظر للأوراق المبعثرة.. وأمطار عينيها تهطل كالرذاذ لا أكثر!! لتبتل الأوراق المبعثرة كبذور الورد!! عندما تبكي الأنثى بداخلنا من يجفف أمطارها!! خرجت من المزرعة دون أن تلقي بالرمال فوق الأوراق.!! هل ستنبت ياترى مجددًا!! أم أنها ستعود أوراق مكتملة النمو!! هناك..من تلك النافذة الخشبية.. تطل بكبرياء منكسر.. تنظر للسماء لا إليها بل إلى الفضاء بين السماء والأرض!! "ليته غسلها ماء السماء فيمحو دناستها بطهره!!" هي الأوراق تتطاير في سماء المدينة دون أن تحمل في جوفها حبر!! فلم تكن لتتعمد محي بقايا من ذكرياتهم!! لكنها وعود حملتها تلك الأوراق أقسمت على ألا تتخلى عنها!! "عندما تمنح العقول للأجساد من يجبرها على تلفيق الوعود!!

غفوة!!



تتبعني.. تظن أنها لم تحدث صوتًا على أرض قدميها الصغيرة.. كانت قد حدثتني مسبقًا.."إلى أين تذهبين؟!". لم تقتنع بإجابتي حينما قلت لها :"هناك أذهب حيث الكبار أمثالي فقط!!" تحاول بعينيها أن تستنطق الإجابة كما أفسر تلك الأصوات خلفي.. في الحقيقة لم ألتفت لها حتى لا أفسد عليها تخطيط ليلة كاملة لم تتمتع عيناها اللوزيتان بالنوم ..أقصد بالنوم الطويل فلن تجرؤ على المواصلة مابين ليل ونهار!! بعد ساعة تقريبًا..أرغمت نفسي على مكانين لا ثالث لهما!! لعلها تمل وتذهب أو بالأحرى تجد لنفسها إجابة تشفع لي عندما تتفرد بي محكمتها البريئة.. آه تعبت ولم تتعب!! لم أسمع وقع قدميها عندما تولي هاربة..هم كذلك أمثالها إذا حلت الساعة الثانية عشر ولو هاربين محدثين أصوات أقدامهم حتى ولو كانوا على كثبان من الرمال!! سأكون مرغمة على مضي ساعة ثانية أيضًا وسأختار مكانين الآن وسأوهمها أنها نهاية رحلتي الليلة.. آه تعبت أكثر ..اصبري يا نفسي قليلًا فما بقي إلا دقيقة وتنتهي الساعة هذا إن كانت ما تزال تتبعني .. آآه يكفي لن أجعلها تنتهي وسأذهب لمكاني كل ليلة أظنها نامت خلفي ولن تستطيع معي صبرا!! آآآه الآن سأبدأ رحلتي ولمكاني الذي أحبه.. آه تذكرت .. فمن الرائع أن ارتشف كوبًا من الشاي الساخن وأنا أقلب مكاني وموقعي المفضل بكل أريحية.. بدأت أرتب المكان قبل أن أعد الشاي..آه احتاج لهواء بارد يطرد الهواء الذي رافق تزييفي قبل قليل..ويلزمني ترتيب كتبي أولًا لأشعر براحة المكان.. قمت من مكاني لأبدأ تنفيذ توجيهات أمليتها على نفسي .. آآه ماهذا الصوت القادم؟!! وكل ما أسمعه صوت تصادم كوبين زجاجيين ببعضهما البعض !! ما هذا ياترى؟! أيكون الشاي قادم لي!!! آه يبدو أن إرهاق ساعتين أخل بتوزان عقلي!! صوت طرق قدم صغيرة على الباب.. ماهذا الذي أراه؟!! أنتِ!! ماهذا؟! :" مضت ساعتين إلا خمس دقائق بالتمام كنت أحاول أن أتعلم خلالها إعداد الشاي لنا سويًا لأقضي ليلتي معك هنا ولنزور معًا ذلك المكان المخصص للكبار!!!

عظم اللـه أجــر من مات عقله قبل أن تخرج روحه!!!!

عندما تهان كرامتنا من اساتذتنا من يقدس لهم الكرامة!!!

بعثـــ~ـــرة

تصوير/لينة الحصين

أي عزمٍ ياشجن؟!! وفي كل يوم ألم يسخر بي!! حياة لا تفصح عن معناها حتى أول منعطف يمر بي فتلوح لي بيد مشوهة الأظافر!! أنني في أجهل منعطف!! والمضي إلى زمن لم أقبّله بعد!! لم أعلم من طهارته غير حرف لم يتخذ موقعًا في الأبجدية بعد!! ولا من دناسته إلا أنني أصبحت أحتل موقعًا إعرابيًا لا أتشكل إلا في صيغتين..الفاعل... والمفعول به!! ولي حق الكسرة والسكون فقط!! *** غدًا ستشرق نجوم!! وتضيء شمس!! ستتحرك زهور!! وستتفتح أشجار!! *** احتلاك الظلام لا يعني أننا نيام!! قد نكون مستيقظين لم نحيا بعد!!! وقد نكون أحياء لم نستشعر نبضات الأروح بنا!! ***