تضع رأسها على ركبتيها، فيرتمي شعرها الأسود حول رأسها، فلا ترى إلا جسد نحيل وشعر طويل يغطيه أو ربما يخفيه! لا أعلم بعد!
ترفع رأسها فجأة , وتفتح عينيها ، تبدو لي رموشها أطول من المعتاد ! يا لروعتها ! آه .. فهمت .. إن عينيها تدمع ! , تلتقط مذكرتها التي بجانبها ، مذكرة تكتب فيها يومياتها على ما أعتقد .. لتكتب كالمعتاد، كل هذا حدث وأنا أتأملها من نافذتي , أنا في الطابق العلوي، وهي في الطابق السفلي في العمارة المقابلة. ليتني أعلم ماذا ستكتب , وماذا كتبت فيها منذ الصفحة الأولى؟! يكاد الفضول يقتلني!!
أغلقت مذكرتها وخبأتها تحت غطاء سريرها الوردي، فتقوم بكبرياء المنكسر الجريح، وترفع شعرها بيدها الصغيرة، آه .. إني أرى مالا يروق لي!! يدها تنزف , متى جرحت ؟! أمعقول أنني لم أنتبه ؟! ليتني أستطيع الخروج من حجرتي بل سجني الذي فرضته علي الإعاقة، فقط لأراها بصورة أقرب .. وإلى متى سأنتظر؟ شهر! شهرين! سنة! سنتين! مللت الانتظار. سأحبوا كطفل صغير! المهم أن أراها!!
خرجت بالكرسي المتحرك حتى اقتربت من السلم، ثم .. وقفت ! نعم وقفت ! أنا وقفت ! تخيلوا! لم أقف على قدماي كما ظننتم! بل وقفت متصنمًا في مكاني !!! أفكر في كيفية نزولي... الوقت يمر... ويأتي الصباح وتضيع مني الحكاية ! فأعود لغرفتي...وهكذا الليالي تمضي .
الليلة .. الساعة ! لا أعلم ! فقد توقفت ساعتي عن العمل منذ أن توقفت أنا عن العمل!! أقف عند السلم مجددًا أفكر..... ربما أنجح! وفي غمضة عين... ها أنا بالأسفل!!!! لا تسألوني كيف؟!! فقد سقطت دون إرادة! وأي إرادة سأجدها في معاق مثلي؟!!! سقطت.. بحركة غير مقصودة.. عندما حركت عجلات الكرسي.... المهم أنني وصلت.. أشعر بالألم... تحطم الكرسي.. يالخسارتي!!! سأتحمل الألم وأحبو! نعم أحبو! أليس من الفضول ماقتل؟!
هناك في الشارع.. تراني كالمستعطف! لا سواي في الشارع على ما اعتقد !! هذا من صالحي !! آخذ نفسًا عميقًا بعدما وصلت بل اقتربت من النافذة .. النافذة التي رأيت فيها تلك الفتاة الصغيرة.. هاهي رأيتها! سأعتمد على قدمي السليمة وأضم عامود الإنارة، لأقف ثم أراها. ولكن ! أين اختفت؟! يا لغرابة الواقع!!! كلما ارتفعت ووقفت أرى نفسي في الغرفة !! الزجاج عاكس!!! أوه!! إذًا!!! لم تكن تلك الفتاة في هذه الغرفة!!! بل في العمارة المجاورة.. بيتي وبكل أسف وببالغ الأسى وقوة الصدمة!!!
عدت إلى بيتي من جديد وحبوًا كما أتيت! اقتربت من الغرفة التي تسكنها الفتاة.. ومن تكون تلك الفتاة يا ترى!! يا إلهي ! أيعقل ألا أعرف من يشاركني العيش غير الخدم هنا !! لا مشكلة حتى الآن!!! كانت الغرفة مفتوحة إلا أن الظلام هو لونها الموحد لكل ما فيها.. صوت الباب عندما دفعته بيدي.. وعيناي تبحث عن تلك الفتاة في الغرفة الأسطورة , أنا لا أراها !! أين هي ياترى؟
هناك.. على كرسي يقابل النافذة تبدو كيد ملطخة بالدم تدلى منه !!! اقتربت من الحائط واستندت عليه لأقف وأقترب من الصورة! فما جعلني أراها إلا ضوء القمر الذي ينير كل ظلام وعتمة.. يا إلهي هل أنا أحلم؟! وأي حلم هذا عندما ترى جثة لاروح فيها لفتاة صغيرة لم تتجاوز السادسة عشر !!! فتاتي قتلت!!! قتلت!! وفي بيتي؟! ومن تكون؟!! إما أن الجنون أصابني أو أنني أصبته!!! ولا فرق بينهما!! عند قدمي الجثة المبتغى والمراد!! المذكرة.. تناولتها بيد أشد من جسدي رجفة! لأفتحها بل لأقرأ أول صفحاتها [طلق أبي أمي ولم يعلم بوجود ابنة له فلم أعرفه إلا بسكرانه أما والدتي فقد اختفت إما موتًا فأترحم عليها أو حياة أسرية جديدة فأحقد عليها وعلى أبي الذي يتفانى في تعذيبي كل لحظة يسكر فيها!!!] يا إلهي أي أب هذا الذي تفانى في تعذيبها حتى قتل كل ما هو بريء في حياته؟!! آه ماهذا الذي أراه؟!! ساعتي هنا؟!! أتكون الشاهد على القصة أم أنها الدليل والفرق واضح بين اللفظين!! شريط يعود في ذاكرتي وصور تتوقف فجأة!! وكأنني في مسلسل مأساوي بل هو مسلسل أشد من مأساة!! أتعلمون أي حقيقة صدمت بها؟!! أتعلمون أي دم تلطخت به يداي؟! دم ابنتي عندما قتلتها وأنا في سكرتي !! ابنتي التي لم أعرفها من قبل!! ابنتي التي تتسول في الشوارع لتأكل وتتسول في بيتها يد أبيها ليكف عن التعذيب!! فهل قبلات الذل ترفع حصار الطغاة ؟!
جنازتان للراحلين .. يبللها دمع السماء .. الأولى منكهة بالمسك مع رائحة المطر .. والأخرى خُدعت بإعاقة وهمية .. فهي ذليلة !! ولكن عندما يمنح الله العقول للأرواح ما لذي يجبرها على حمل الأمانة ؟!